حدّثني أبي فقال:جبت السّهول والتّلال...وسكنت المدن والجبال...وصرفت "الصّوردي"و"الفرنك"وحتّى "الرّيال"...سكنت تخوم الأرياف...وعانقت الأنواء
والجفاف...ودرست العلّة والزّحاف...تنفّست تربة أرض السّلالة...شربت من كأس عشقها حتّى الثّمالة...قدّست في خيراتها معنى العدالة...عشت سنين
الاستعمار...جرّبتالسّجن والاضطهاد وحتّى الانتحار...إلى أن اشتدّ عودي...وأصبحت قادراعلى نفث البارود...كلّفني أبي بمهمّة...وبقلب الكسرة إلى ضمّة...قال:"اذهب
إلى عمّك فلان...ستجده في نفس الإيوان...ذاكر اللّسان...ناعم البنان...يحفظ صلة الجوار...ولاينقض عهد الأحرار...قل له:إنّ أبي يقرئك السّلام...ويريد كراء هذا
العام...فأرضي أعرفهامعطاء...تلوك سيرة أجدادي الكرماء...كما أنّي-كما ترى-أصبحت رجلا...وقادرا على إحبالها أملا..." هزّ مخاطبي رأسه وزمجر...والسّبّ من لسانه
قد انهمر...أمسك بالأنامل هراوة...وكشّر عن أنيابه بكلّ شراسة وضراوة...فتق ثوب الحرير...وسُمع لأسنانه مثل الصّرير...قال:"الأرض أرضي والسّماء سمائي...وأبوك
يعرف حنكتي ودهائي...أبوك قد بصم بحافره على العقد...ودفعت له ثمنها نقدا بنقد"قل له:"أوراقي قانونيّة...وقصّة بيع أرضك على ألسنة الحكّام مرويّة...فأنا سترت
أرضكم...وحميت عرضكم...فلولاي لتبرّجت 'العاهر' للمستعمر...ولحملت منه خلال أشهر...عندها يستحيل اجتثاث الفضيحة...وتُنعتون بأبناء 'الزّانية القبيحة"قلت:تبّا لك
هاهو الاستعمار...لقد ألحقت بأبنائي العار...حين اغتصبت أمّهم البتول العذراء...ونكّلت بواحتها الفيحاء...شرّدتهم قبل أن يُولدوا...وأتعستهم قبل أن يسعدوا...ستدخل
مزبلة التّاريخ من بابها العريض...وتُدوّن في دفاتر "الرّجل المريض"...فأرضيلا تعترف بالغاصب...ولو أنّك في ديرها عاشق راهب...ستُجهض يوما نسلك...وتكتب على
يافطة أصلك...ستفضحك الذّريّة...وتُسجّل في كتاب "غينس"للأرقام القياسيّة...قلت هذا وانصرفت...وبتربتها دموعي مسحت...زأرت أرضيواقشعرّت...ورفعت الصّوت
بالنّحيب واكفهرّت...قالت:"لا تيأس يافلذة كبدي...فدماؤكم القانية مددي...وسواعدكم السّمراء سندي...لن يهنأ الخائن بخصوبتي...ولن يتلذّذ أصالتي وعروبتي...فتفّاحي
سيصبح حنظلا...وقمري آفلا...ورحمي للسّباع والكواسر كافلا...عنبي حصرم...وبئري ملغّم...كلئي عوسج... وكاحلي أعرج...وزندي مضرّج...لن يهنأ الخائن
الذّميم...فرحمي عقيم...وبارودي جاثم في أحشائي كأصحاب الكهف والرّقيم...انهض ياكبدي وفجّر الأعماق...خلّ الشّظاياتخترق السّوق والأعناق...فالعار لايمحى إلّا
بالدّم...وعارك عريق في القدم...شمّر عن السّاعد وتقدّم...وخلّ براكينك تقذف الحمم...تهشّم الصّنم...تُسمع الأصمّ...تدكّ القمم...وتُحيي الهمم..."